الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)
.ذكر إسحاق بن إبراهيم وأولاده: ونكح يعقوب بن إسحاق- وهو اسرائيل- ابنة خاله ليا بنت لبان بن بتويل فولدت له روبيل، وكان أكبر ولده، وشمعون ولاوي ويهوذا وزبالون ولشحر، وقيل ويشحر، ثمّ توفّيت ليا فتزوج أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين، وهو بالعربية شداد، وولد له من سرِّيتين أربعة نفر: دان ونفتالي وجاد واشر، وكان ليعقوب اثنا عشر رجلاً. قال السّدّيّ: تزوّج إسحاق بجارية فحملت بغلامين، فلما أرادت أن تضع زراد يعقوب أن يخرج قبل عيص فقال عيص: والله لئن خرجت قبلي لاعترضنّ في بطن أمّي ولأقتلنّها، فتأخّر يعقوب وخرج عيص فقال عيص: والله لئن خرجت قبلي لاعترضنّ في بطن أمّي ولأقتلنّها، فتأخّر يعقوب وخرج عيص وأخذ يعقوب بعقب عيص، فسمّي يعقوب وسمّي أخوه عيصاً لعصيانه، وكان عيص أحبّهما إلي أبيه ويعقوب أحبّهما إلى أمه، وكان عيص صاحب صيد، فقال له اسحاق لما كبر وعمي: يا بنيّ أطعمني لحم صيد واقترب مني أدع لك بدعاء دعا لي به أبي، وكان عيص رجلاً أشعر، وكان يعقوب أجرد، وسمعت أمهما ذلك وقالت ليعقوب: يا بنيّ أذبح شاة واشوها والبس جلدها وقرّبها إلى أبيك وقل له: أنا ابنك عيص، ففعل ذلك يعقوب، فلما جاء قال: يا أبتاه كلْ، قال: من أنت؟ قال: أنا ابنك عيص، فمسحه اسحاق فقال: المسّ مسّ عيص والريح ريح يعقوب، فقالت أمّه: إنّه عيص فكلْ، فأكل ودعا له أن يجعل الله في ذرّيته الأنبياء والملوك. وقام يعقوب وجاء عيص، وكان في الصيد، فقال لأبيه: قد جئتك بالصيد الذي طلبت، فقال: يا بنيّ قد سبقك أخوك، فحلف عيص ليقتلنّ يعقوب، فقال: يا بنيّ قد بقيت لك دعوة، فدعا له أن يكون ذرّيّتُه عدد التراب وأن لا يملكهم غيرهم. وهرب يعقوب خوفاً من أخيه إلى خاله، وكان يسري بالليل ويكمن بالنهار، فلذلك سمي إسرائيل، ثم إن يعقوب تزوج ابنتي خاله جمع بينهما، فلذلك قال الله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} النساء: 4: 23، وولد له منهما، فماتت راحيل في نفاسها ببنيامين، وأراد يعقوب الرجوع إلى بيت المقدس فأعطاه خاله قطيع غنم، فلمّا ارتحلوا لم يكن لهم نفقة، فقالت زوجة يعقوب ليوسف: اسرق صنماً من أصنام أبي نستنفق منه، فسرق صنماً من أصنام أبيها. وأحبّ يعقوب يوسف وأخاه بنيامين حبّاً شديداً ليتمهما، وقال يعقوب لراع من الرّعاة: إذا أتاكم أحد يسألكم من أنتم فقولوا: نحن ليعقوب عبد عيص، فلقيهم عيص فسألهم فأجابه الراعي بذلك الجواب، فكفّ عيص عن يعقوب ونزل يعقوب الشام، ومات إسحاق بالشام وعمره مائة وستون سنة ودفن عند أبيه إبراهيم، عليه السلام. .قصّة أيوب عليه السلام: وكان من حديثه وسبب بلائه أنّ إبليس سمع تجاوب الملائكة بالصلاة على أيّوب حين ذكره الله فحسده وسأل الله أن يسلّطه عليه ليفتنه عن دينه، فسّلطه على ماله حسب، فجمع إبليس عظماء أصحابه من العفاريت، وكان لأيّوب البثنيّة جميعها من أعمال دمشق بما فيها، وكان له فيها ألف شاة برعاتها وخمسمائة فدّان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ومال ويحمل آلة الفدّان أتان وكلّ أتان ولد واثنان وما فوق ذلك، فلمّا جمعهم إبليس قال: ما عندكم من القوّة والمعرفة فإني قد تسلطت على مال أيوب، فقال كل منهم قولاً، فأرسلهم فأهلكوا ماله كله وأيوب يحمد الله ولا يرجع عن الجدّ في عبادته والشكر له على ما أعطاه والصرب على ما ابتلاه. فلما رأى ذلك إبلس من أمره سأل الله أن يسلطه على ولده، فسلّطه عليهم ولم يجعل له سلطاناً على جسده ولا عقله وقلبه، فأهلك ولده كلهم، ثمّ جاء إليه متمثلاً بمعلمهم الذي كان يعلمهم الحكمة جريحاً مشدوخاً يرقّقه حتى رق أيوب فبكى وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه، فسرّ بذلك إبليس. ثمّ إنّ أيّوب ندم لذلك وجدّ واستغفر، فصعد حفظته من الملائكة بتوبته إلى الله قبل إبليس، فلما لم يرجع أيوب عن عبادة ربّه والصبر على ما ابتلاه به سأل الله تعالى أن يسلّطه على جسده، فسّلطه عليه خلا لسانه وقلبه وعقله فإنه لم يجعل له على ذلك سلطاناً، فجاءه وهو ساجد فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده وصار أمره إلى أن انتثر لحمه وامتلأ جسده دوداً، فإن كانت الدودة لتسقط من جسده فيردّها إليه ويقول: كُلي من رزق الله، وأصابه الجُذام، وكان أشدّ من ذلك عليه أنه كان يخرج في جسده مثل ثدي المرأة ثم يتفقّأ، وأنتن حتى لم يطق أحد يشمّ ريحه، فأخرجه أهل القرية منها إلى الكُناسة خارج القرية لا يقربه أحد، إلا زوجته، وكانت تختلف إليه بما يصلحه، فبقي مطروحاً على الكناسة سبع سنين ما يسأل الله أن يكشف ما به، وما على وجه الأرض أكرم على الله منه. وقيل: كان سبب بلائه أن أرض الشام أجدبت فأرسل فرعون إلى أيّوب أن هلمّ إلينا فإنّ لك عندنا سعة، فأقبل بأهله وخيله وماشيته، فأقطعهم فرعون القطائع، ثم إنّ شعيباً النبيّ دخل إلى فرعون فقال: يافرعون أما تخاف أن يغضب الله غضبة فيغضب لغضبه أهل السماء وأهل الأرض والبحار والجبال؟ وأيوب ساكت لا يتكلم، فلمّا خرجا أوحى الله إلى أيوب: يا أيّوب سكتَّ عن فرعون لذهابك إلى أرضه، استعد للبلاء، فقال أيوب: أما كنت أكفل اليتيم وآوي الغريب وأشبع الجائع وأكفت الأرملة؟ فمرّت سحابة يسمع فيها عشرة آلاف صوت من الصواعق يقولون: من فعل ذلك يا أيوب؟ فأخذ تراباً فوضعه على رأسه وقال: أنت ياربّ، فأوحى الله إليه: استعدّ للبلاء، قال: فديني؟ قال: أسلّمه لك، قال: فما أبالي. وقيل: كان السبب غير ذلك، وهو نحو مما ذكرنا. فلما ابتلاه الله واشتد عليه البلاء قالت له امرأته: إنك رجل مجاب الدعوة فادع الله أن يشفيك، فقال: كنّا في النعماء سبعين سنة فلنصبر في البلاء سبعين سنة، والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة، وقيل: إنما أقسم ليجلدها لأن إبليس ظهر لها وقال: بم أصابكم ما أصابكم؟ قالت: بقدر الله، قال: وهذا أيضاً بقدر الله فاتبعيني، فاتبعته، فأراها جميع ما ذهب منهم في وادٍ وقال: اسجدي لي وأرده عليكم، فقالت: إنّ لي زوجاً أستأمره، فلم أخبرت أيوب قال: ألم تعلمي أن ذلك الشيطان؟ لئن شفيت لأجلدنك مائة جلدة، وأبعدها وقال لها: طعامك وشرابك علي حرام لا أذوق مما تأتيني به شيئاً فابعدي عني فلا أراك، فذهبت عنه، فلما رأى أيوب أن امرأته قد طردها وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق خرّ ساجداً وقال: ربّ {إني مسّني الضرّ وأنت أرحم الراحمين} الأنبياء: 21: 83 كرّر ذلك، فقيل له: ارفع رأسك فقد استجيب لك، {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب} ص: 38: 42، ورد الله إليه جسده وصورته. وأما امرأته فقالت: كيف أتركه، وليس عنده أحد، يموت جوعاً وتأكله السبّاع؟ فرجعت إليه فرأت أيوب وقد عوفي، فلم تعرفه، فعجبت حيث لم تره على حاله، فقالت له: يا عبد الله هل رأيت ذلك ارجل المبتلى الذي كان ههنا؟ قال: وهل تعرفينه إذا رأيته؟ قالت: نعم، قال: هو أنا، فعرفته. وقيل: إنما قال: مسني الضرّ لما وصل الدود إلى لسانه وقلبه خاف أن يبطل عن ذكر الله تعالى والفكر، وردّ الله إليه أهله ومثلهم معهم، قيل هم بأعيانهم، وقيل: ردّ الله إليه امرأته وردّ إليها شبابها فولدت له ستّة وعشرين ذكراً، وأنزل الله إليه ملكاً فقال: يا أيّوب نّ الله يقرئك السلام لصبرك على البلاء، اخرج إلى أندرك، فخرج إليه، فبعث الله سحابةً فألقت عليه جراداً من ذهب، وكانت الجرادة تذهب فيتبعها حتى يردّها في أندره، فقال الملك: أما تشبع من الداخل حتى تتّبع الخارج؟ فقال: إن هذه البركة من بركات ربّي لست أشبع منها. وعاش أيوب بعد أن رفع عنه البلاد سبعين سنة، ولما عوفي أمره الله أن يأخذ عرجوناً من النخل فيه مائة شمراخ فيضرب به زوجته ليبرّ من يمينه، ففعل ذلك. وقول أيّوب: {ربّ إنّي مسّني الضرّ} دعاء ليس بشكوى، ودليله قوله تعالى: {فاستجبنا له} الأنبياء: 21: 84. وكان من دعاء أيّوب: أعوذ بالله من جارٍ عينه تراني إن رأى حسنة سترها وإن رأى سيئة ذكرها، وقيل: كان سبب دعائه أنّه كان قد اتبعه ثلاثة نفر على دينه اسم أحدهم يلدد والآخر اليفر والثالث صافر، فانطلقوا إليه وهو في البلاء فبكّتوه أشدّ تبكيت وقالوا له: لقد أذنبت ذنباً ما أذنبه أحد، فلهذا لم يكشف العذاب عنك، وطال الجدال بينهم وبينه، فقال فتى كان معهم لهم كلاماً يردّ عليهم، فقال: قد تركتم من القول أحسنه، ومن الرأي أصوبه، ومن الأمر أجمله، وقد كان لأيّوب عليكم من الحقّ والذمام أفضل من الذي وصفتم، فهل تدرون حقّ من انتقصتم وحرمة من انتهكتم ومن الرجل الذي عبتم؟ ألم تعلموا أن أيوب نبيّ الله وخيرته من خلقه يومكم هذا؟ ثمّ لم تعلموا ولم يعلمكم الله أنه سخط شيئاً من أمره ولا أنه نزع شيئاً من الكرامة التي كرم الله بها عباده ولا أن أيوب فعل غير الحقّ في طول ما صحبتموه، فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم ووضعه في نفوسكم، فقد علمتم أنّ الله يبتلي النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وليس بلاوه لأولئك دليلاً على سخطه عليهم ولا على هوانهم عليه ولكنها كرامة وخيرة لهم، وأطال في هذا النحو من الكلام. ثمّ قال لهم: وقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يكلّ ألسنتكم ويكسر قلوبكم ويقطع حجتكم، ألم تعلموا أن لله عباداً أسكتتهم خشيته عن الكلام من غير عيّ ولا بكم؟ وإنهم لهم الفصحاء الألبّاء العلامون بالله وآياته ولكنّهم إذا ذكروا عظمة الله انكسرت قلوبهم وانقطعت ألسنتهم وطاشت أحلامهم وعقولهم فزعاً من الله وهيبة له، فإذا أفاقوا استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية يعدّون أنفسهم مع الظالمين وإنّهم لأبرار، ومع المقصرين وإنّهم لأكياس أتقياء، ولكنهم لا يستكثرون لله عزّ وجلّ الكثير ولا يرضون له القليل ولا يدلّون عليه بالأعمال فهم أينما لقيتهم خائفون مهيمون وجلون. فلمّا سمع أيوب كلامه قال: إنّ الله يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير، فمتى كانت في القلب ظهرت على اللسان ولا تكون الحكمة من قبل السنّ والشيبة ولا طول التجربة، وإذا جعل اله تعالى عبداً حكيماً عند الصِّبا لم تسقط منزلته عند الحكّام، ثمّ أقبل على الثلاثة فقال: رهبتم قبل أن تسترهبوا، وبكيتم قبل أن تضربوا، كيف بكم لو قلت لكم تصدّقوا عني بأموالكم لعل الله أن يخلصني، أو قربوا قرباناً لعل الله أن يتقبّل ويرضى عني؟ وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم فظننتم أنّكم عوفيتم بإحسانكم فبغيتم وتعزّزتم، لو صدّقتم ونظرتم بينكم وبين ربّكم لوجدتم لكم عيوباً سترها الله بالعافية، وقد كنت فيما خلا والرجال يوقّرونني وأنا مسموع كلامي، معروف من حقّي، مستنصف من خصمي، فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم، فأنتم أشدّ عليَّ من مصيبتي. ثمّ أعرض عنهم وأقبل على ربّه مستغيثاً به متضرّعاً إليه فقال: ربّ لأيّ شيء خلقتني ليتني إن كرهتني لم تخلقني، يا ليتني كنت حيصةً ملقاةً، ويا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت فصرفت وجهك الكريم عني لو كنت أمتّني فالموت أجمل لي ألم أكن للغريب داراً وللمسكين قراراً ولليتيم وليّاً وللأرملة قيِّماً؟ إلهي أنا عبد ذليل إن أحسنت فالمنّ لك، وإن أسأت فبيدك عقوبتي جعلتني للبلاء عرضاً فقد وقع عليّ البلاء لو سلّطته على جبل لضعف عن حمله فكيف يحمله ضعفي ذهب المال فصرتُ أسأل بكفّي فيطعمني من كنتُ أعوله اللّقمة الواحدة فيمنّها عليّ ويعيِّرني هلك أولادي، ولو بقي أحدهم أعانني، قد ملّني أهلي وعقّني أرحامي فتنكّرت معارفي، ورغب عني صديقي، وجحدت حقوقي، ونسيت صنائعي، أصرخ فلا يصرخونني، وأعتذر فلا يعذرونني، دعوتُ غلامي فلم يجبني، وتضرّعت إلى أمتي فلم ترحمني، وإنّ قضاءك هو الذي آذاني وأقمأني، وإن سلطانك هو الذي أسقمني، فلو أنّ ربيّ نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلّم ملء فمي ثمّ كان ينبغي للعبد أن يحاجّ مولاه عن نفسه، لرجوتُ أن تعافيني عند ذلك، ولكنّه ألقاني وعلا عني فهو يراني ولا أراه، ويسمعني ولا أسمعه، لا نظر إليّ فرحمني، ولا دنا مني فأتكلّم ببراءتي وأخاصم عن نفسي. فلمّا قال أيّوب ذلك أظلّتهم غمامة ونودي منها: يا أيوب إنّ الله يقول قد دنوت منك ولم أزل منك قريباً فقم فأدلِ بحجتك وتكلّم ببراءتك وقم مقام جبّار فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار. تجعل الزيار في فم الأسد واللّجام في فم التنين وتكيل مكيالاً من التنور وتزن مثقالاً من الريح وتصرّ صرّة من الشمس وتردّ أمس، لقد منتك نفسك أمراً لا تبلغه بمثل قوّتك، أردت أن تكابرني بضعفك أم تخاصمني بعيّك أم تحاجّني بخطلك أين أنت مني يوم خلقت الأرض؟ هل علمت بأيّ مقدار قدرتها؟ أين كنت معي يوم رفعت السماء سقفاً في الهواء لا بعلائق ولا بدعائم تحملها؟ هل تبلغ حكمتك أن تجري نورها أو تسيّر نجومها أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها؟ وذكر أشياء من مصنوعات الله. فقال أيوب: قصرت عن هذا الأمر ليت الأرض انشقت لي فذهبت فيها ولم أتكلّم بشيء يسخطك إلهي اجتمع عليّ البلاء وأنا أعلم أنّ كلّ الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك لا يعجزك شيء ولا تخفى عليك خافية، تعلم ما تخفي القلوب، وقد علمت في بلائي ما لم أكن أعلمه، كنت اسمع بسطوتك سمعاً فأمّا الآن فهو نظر العين، إنّما تكلّمت بما تكلّمت به لتعذرني، وسكتّ لترحمني، وقد وضعت يدي على فمي وعضضت على لساني وألصقت بالتراب خديّ فدسستُ فيه وجهي فلا أعود لشيء تكرهه، ودعا. فقال الله: يا أيوب نفذ فيك حكمي وسبقت رحمتي غضبي، قد غفرت لك ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم لتكون لمن خلفك آية وعبرة لأهل البلاء وعزاءً للصابرين، ف {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب} ص: 38: 42 فيه شفاء، وقرّب عن اصحابك قرباناً واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك، فركض برجله فانفجرت له عين ماء فاغتسل فهيا، فرفع الله عنه البلاء، ثمّ خرج فجلس وأقبلت امرأته فسألته عنه فقال: هل تعرفينه؟ قالت: نعم، مالي لا أعرفه فتبسّم، فعرفته بضحكه، فاعتنقته فلم تفارقه من عناقه حتى مرّ بهما كلّ مال لهما وولد. وإنما ذكرته قبل يوسف وقصّته لما ذكر بعضهم من أمره وأنه كان نبيّاً في عهد يعقوب. وذكر أن عمر أيوب كان ثلاثاً وتسعين سنة، وأنه أوصى عند موته إلى ابنه حومل، وأن الله بعد بعده ابنه بشر بن أيوب نبيّاً وسمّا ذا الكفل، وكان مقيماً بالشام حتى مات، وكان عمره خمساً وسبعين سنة، فأوصي إلى ابنه عيدان، وأنّ الله بعث بعده شعيب بن ضيعون بن عنقا بن ثابت بن مدين بن إبراهيم، عليه السلام. .ذكر قصة يوسف عليه السلام: فلمّا رأى إخوة يوسف محبّة أبيهم له وإقباله عليه حسدوه وعظم عندهم. ثمّ إنّ يوسف رأى في منامه كأنّ أحد عشر كوكباً والشمس والقمر تسجد له، فقصها على أبيه، وكان عمره حينئذٍ اثنتي عشرة سنة، فقال له أبوه: {يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً إنهَ الشيطان للإنسان عدوٌّ مبين} يوسف: 12: 5، ثمّ عبّر له رؤياه، فقال: {وكذلك يجتبيك ربّك ويعلمك من تأويل الأحاديث}. وسمعت امرأة يعقوب ما قال يوسف لأبيه فقال لها يعقوب: اكتمي ما قال يوسف ولا تخبرين أولادك، قالت: نعم، فلمّا أقبل أولاد يعقوب من الرعي أخبرتهم بالرّؤيا، فازدادوا حسداً وكراهةً له وقالوا: ما عني بالشمس غير أبينا، ولا بالقمر غيرك، ولا بالكواكب غيرنا، إنّ ابن راحيل يريد أن يتملك علينا ويقول أنا سيدّكم، وتآمروا بينهم أن يفرّقوا بينه وبني أبيه وقالوا: {ليوسف وأخوه أحبُّ إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين} يوسف: 12: 8- في خطأ بين في إيثارهما علينا- {اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوماً صالحين} يوسف: 12: 9 أي تائبين. فقال قائل منهم، وهو يهودا، وكان أفضلهم وأعقلهم: لا تقتلوا يوسف فإنّ القتل عظيم، وألقوه في غيابة الجبّ يلتقطه بعض السيارة، وأخذ عليهم العهود أنّه لا يقتلونه، فأجمعوا عند ذلك أن يدخلوا على يعقوب ويكلّموه في إرسال يوسف معهم إلى البريّة، وأقبلوا إليه ووقفوا بين يديه، وكذلك كانوا يفعلون إذا أرادوا منه حاجة، فلمّا رآهم قال: ما حاجتكم؟ قالوا: {يا أبانا ما لك لا تأمنّا على يوسف وإنّا له لناصحون} [يوسف: 12: 11] نحفظه حتى نرده أرسله معنا إلى الصحراء {غداً يرتع ويلعب وإنّا له لحافظون} فقال لهم يعقوب: {إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون} يوسف: 12: 13 لا تشعرون، وإنما قال لهم ذلك لأنه كان رأى في منامه كأنّ يوسف على رأس جبل وكأنّ عشرة من الذئاب قد شدّوا عليه ليقتلوه، وإذا ذئب منها يحمي عنه، وكأنّ الأرض انشقّت فذهب فيها فلم يخرج منها إلا بعد ثلاثة أيّام، فلذلك خاف عليه الذئب. فقال له بنوه: {لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذاً لخاسرون} يوسف: 12: 14، فاطمأنّ إليهم، فقال يوسف: يا أبتِ أرسلني معهم، قال: أوتحبّ ذلك؟ قال: نعم، فأذن له، فلبس ثيابه وخرج معهم وهم يكرمونه، فلمّا برزوا إلى البريّة أظهروا له العداوة وجعله بعض إخوته يصربه فيستغيث بالآخر فيضربه، فجعل لا يرى منهم رحيماً، فضربوه حتى كادوا يقتلونه، وجعل يصيح: يا أبتاه يا يعقوب لو تعلم ما يصنع بابنك بنو الإماء. فلمّا كادوا يقتلونه قال لهم يهوذا: أليس قد أعطيتموني موثقاً ألا تقتلوه؟ فانطلقوا به إلى الجبّ فأوثقوه كتافاً ونزعوا قميصه وألقوه فيه، فقال: يا إخوتاه ردّوا عليّ قميصي أتوارى به في الجبّ فقالوا: ادعُ الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً تؤنسك، قال: إنّي لم أرَ شيئاً، فدّلوه في الجبّ، فلما بلغ نصفه ألقوه وأرادوا أن يموت، وكان في البئر ماء، فسقط فيه ثمّ زوى إلى صخرة فأقام عليها، ثمّ نادوه فظنّ أنهم قد رحموه فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه بالحجارة فمنعهم يهوذا،ثم أوحى الله إليه: {لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون} يوسف: 12: 15 بالوحي، وقيل لا يشعرون أنه يوسف. والجبّ بأرض بيت المقدس معروف. ثم عادوا إلى أبيهم عشاءً يبكون فقالوا: {يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عدن متاعنا فأكله الذئب} يوسف: 12: 17، فقال لهم أبوهم: {بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل} يوسف: 12: 18، ثم قال لهم: أروني قميصه، فزروه، فقال: تالله ما رأيتُ ذئباً أحلم من هذا أكل ابني ولم يشقّ قميصه ثم صاح وخرّ مغشيّاً عليه ساعة، فلمّا أفاق بكى بكاء طويلاً فأخذ القميص يقبّله ويشمّه. وأقام يوسف في الجب ثلاثة أيام، وأرسل الله ملكاً فحلّ كتافه، ثمّ {جاءت سيارةٌ فأرسلوا واردهم} وهم الذي يتقدّم إلى الماء، {فأدلى دلوه} إلى البئر، فتعلّق به يوسف فأخرجه من الجبّ، و{قال يا بشرى هذا غلام} تباشروا وقيل يا بشر اسم غلام {وأسروه بضاعةً} يعني الوارد وأصحابه فخافوا أن يقولوا اشتريناه فيقول الرفقة اشركونا فيه فقالوا: إنّ أهل الماء استبضعونا هذا الغلام. وجاء يهوذا بطعام ليوسف فلم يره في الجبّ فنظر فرآه عند مالك في المنزل فأخبر إخوته بذلك، فأتوا مالكاً وقالوا: هذا عبد ابق منّا، وخافهم يوسف فلم يذكر حاله واشتروه من إخوته بثمن بخس؛ قيل عشرون درهماً، وقي لأربعون درهماً، وذهبوا به إلى مصر، فكساه مالك وعرضه للبيع، فاشتراه قطفير، وقيل اطفير، وهو العزيز، وكان على خزائن مصر، والملك يومئذٍ الريّان بن الوليد رجل من العمالقة، قيل: إنّ هذا الملك لم يمت حتى آمن بيوسف ومات ويوسف حيّ، وملك بعده قابوس بن مصعب، فدعاه يوسف فلم يؤمن. فلمّا اشترى يوسف وأتى به إلى منزله قال لامرأته، واسمها راعيل: {أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا} فيكفينا إذا هو بلغ وفهم الأمور بعض ما نحن بسبيله من أمورنا {أو نتخذه ولداً يوسف} [12: 21] وكان لا يأتي النساء، وكانت امرأته حسناء ناعمة في ملك ودنيا. فلما خلا من عمر يوسف ثلاث وثلاثون سنة آتاه الله العلم والحكمة قبل النبوّة، وراودته راعيل عن نفسه وأغلقت الأبواب عليه وعليها ودعته إلى نفسها، فقال: {معاذ الله إنه ربي} يعني أن زوجك سيدي – {أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون} [يوسف: 12: 23] يعني أنّ خيانته ظلم، وجعلت تذكر محاسنه وتشوّقه إلى نفسها، فقالت له: يا يوسف ما أحسن شعرك قال: هو أوّل ما ينتثر من جسدي، قالت: يا يوسف ما أحسن عينيك قال: هما أول ما يسيل من جسدي، قالت: ما أحسن وجهك قال: هو للتراب، فلم تزل به حتى همّت وهمّ بها وذهب ليحلّ سراويله، فإذا هو بصورة يعقوب قد عضّ على إصبعه يقول: يا يوسف لا تواقعها إنّما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جوّ السماء لا يطاق، ومثلك إذا واقعتها مثله إذا مات وسقط إلى الأرض. وقيل: جلس بين رجليها فرأى في الحائط: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً} الاسراء: 17: 32، فقام حين رأى برهان ربّه هارباً يريد الباب، فأدركته قبل خروجه من الباب فجذبت قميصه من قبل ظهره فقدّته، {وألفيا سيدها لدى الباب}- وابن عمها معه، فقالت له-: {ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن} يوسف: 12: 26، قال يوسف: بل {هي راودتني عن نفسي} فهربت منها فأدركتني فقدّت قميصي، قال لها ابن عمّها: تبيان هذا في القميص فإن كان قُدّ من قُبُلٍ فصدقتِ، وإن كان قُدّ من دُبُرٍ فكذبت، فأُتي بالقميص فوجده قُدّ من دبر فقال: {إنه من كيدكنّ إنّ كيدكنّ عظيم} يوسف: 12: 28. وقيل: كان الشاهد صبيّاً في المهد، قال ابن عباس: تكلّم أربعة في المهد وهم صغار، ابن ماشطة امرأة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريح، وعيسى بن مريم. وقال زوجها ليوسف: {أعرض عن هذا} أي ذكر ما كان منها فلا نذكره لأحد، ثم قال لزوجته، {استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين} يوسف: 12: 29. وتحدّث النساء بأمر يوسف وامرأة العزيز، وبلغ ذلك امرأة العزيز، فأرسلت إليهنّ وأعتدت لهن متّكأً يتّكئن عليه من وسائد، وحضرن، وقدّمت لهنّ أترنجاً وأعطت كلّ واحدة منهنّ سكّيناً لقطع الأترنج، وقد أجلست يوسف في غير المجلس الذي هنّ فيه وقالت له: {اخرج عليهن} فخرج {فلما رأينه أكبرنه} وأعظمنه {وقطّعن أيديهن} بالسكاكين ولا يشعرن، وقلن: معاذ الله {ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم} يوسف: 12: 31. فلمّا حلّ بهنّ ما حلّ من قطعهنّ أيديهن وذهاب عقولهن وعرفن خطأهنّ فيما قلن أقرّت على نفسها وقالت: {فذلكن الذي لمتنّني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين} يوسف 12: 32، فاختار يوسف السجن على معصية الله، فقال: {رب السجن أحبّ إليّ مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن} يوسف: 12: 33، {فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن} يوسف: 12: 34، ثمّ بدا للعزيز من بعد ما رأي الآيات من القميص وخمش الوجه وشهادة الطفل وتقطيع النسوة أيديهنّ في ترك يوسف مطلقاً. وقيل: إنها شكت إلى زوجها وقالت: إنّ هذا العبد قد فضحني في الناس يخبرهم أنني راودته عن نفسه، فسجنه سبع سنين، فلما حُبس يوسف أُدخل معه السجن فتيان من أصحاب فرعون مصر، أحدهما صاحب طعامه، والآخر صاحب شرابه، لأنهما نقل عنهما أنهما يريدان أن يسمّا الملك، فلمّا دخل يوسف السجن قال: إني أعبِّر الأحلام، فقال أحد الفتيين للآخر: هلمّ فلنجرّبه، فقال الخباز: {إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه} وقال الآخر: {إني أراني أعصر خمراً} يوسف: 12: 3، كره أن يعبر لهما ما سألاه عنه، وأخذ في غير ذلك وقال: {يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} يوسف: 12: 39 وكان اسم الخبّاز مخلت، واسم الآخر نبو، فلم يدعاه حتى أخبرهما بتأويل ما سألاه عنه، فقال: {أما أحدكما} وهو الذي رأى أنه يعصر الخمر، {فيسقي ربّه خمراً} يعنى سيده الملك {وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه} يوسف 12: 41، فلما عبّر لهما قالا: ما رأينا شيئاً قال: {قضي الأمر الذي فيه تستفتيان} ثم قال لنبو، وهو الذي ظنّ أنه ناج منهما: {اذكرني عند ربك} يوسف: 12: 42 الملك وأخبره أني محبوس ظلماً، {فأنساه الشيطان ذكر ربه} غفلة عرضت ليوسف من قبل الشيطان، فأوحى الله إليه: يا يوسف اتخذت من دوني وكيلاً لأطيلنّ حبسك، فلبث في السجن سبع سنين. ثم إنّ الملك، وهو الريّان بن الوليد بن الهروان بن اراشة بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، رأى رؤيا هائلة، رأي سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، ورأي سبع سنبلات خضر وأخر يابسات، فجمع السحرة والكهنة والحازة والعافة فقصّها عليهم، فقالوا: {أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة} أي حين {أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون} يوسف: 12: 44- 45، فأرسلوه إلى يوسف، فقصّ عليه الرّؤيا، فقال: {تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبعٌ شداد يأكلن ما قدمتم لهنّ إلاّ قليلاً مما تحصنون ثم يأتي من بعد ذلك عامٌ فيه يغاث الناس وفيه يعصرون} يوسف: 12: 47- 49، فإن البقرة السّمان السنون المخاصيب، والبقرات العجاف السنون المحول، وكذلك السنبلات الخضر واليابسات، فعاد نبو إلى الملك فأخبره، فعلم أنّ قول يوسف حقّ، فقال: {ائتوني به} فلما أتاه الرسول ودعاه إلى الملك لم يخرج معه وقال: {ارجع إلى ربك فأسأله ما بال النسوة اللاّتي قطعن أيديهن} يوسف: 12: 50 فلما رجع الرسول من عند يوسف سأل الملك أولئك النسوة فقلن: {حاش لله ما علمنا عليه من سوء} ولكنّ امرأة العزيز خبّرتنا أنها راودته عن نفسه، فقالت امرأة العزيز: {أنا راودته عن نفسه} يوسف: 12: 51، فقال يوسف: إنّما رددت الرسل ليعلم سيدي {أني لم أخنه بالغيب} يوسف: 52 في زوجته، فلما قال ذلك، قال له جبرائيل: ولا حين هممت بها؟ فقال يوسف: {وما أبرئ نفسي إنّ النفس لأمارة بالسوء} يوسف: 12: 53. فلما ظهر للملك براءة يوسف وأمانته قال: {ائتوني به أستخلصه لنفسي} يوسف: 12: 54، فلمّا جاءه الرسول خرج معه ودعا لأهل السّجن وكتب على بابه: هذا قبر الأحياء وبيت الأحزان وتجربة الأصدقاء وشماتة الأعداء، ثمّ اغتسل ولبس ثيابه وقصد الملك، فلما وصل إليه و{كلمه قال إنّك اليوم لدينا مكينٌ أمين} يوسف: 12: 54، فقال يوسف: {اجعلني على خزائن الأرض} يوسف: 12: 55، فاستعمله بعد سنة ولو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته، فسلّم خزائنه كلّها إليه بعد سنة وجعل القضاء إليه وحكمه نافذاً، وردّ إليه عمل قُطفير سيّده بعد أن هلك، وكان هلاكه في تلك الليالي، وقيل: بل عزله فرعون وولّى يوسف عمله، والأوّل أصحّ لأنّ يوسف تزوّج امرأته، على ما نذكره. ولما ولي يوسف عمل مصر دعا الملك الريّان إلى الإيمان، فآمن، ثمّ توفي، ثم ملك بعده مصر قابوس بن مصعب بن معاوية بن نمير بن السلواس بن فاران بن عمرو بن عملاق، فدعاه يوسف إلى الإيمان، فلم يؤمن، وتوفي يوسف في ملكه. ثم إنّ الملك الريّان زوّج يوسف راعيل امرأة سيّده، فلمّا دخل بها قال: أليس هذا خيراً مما كنت تريدين؟ فقالت: أيها الصدّيق لا تلمني فإني كنت امرأة حسناء جميلة في ملك ودنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك فغلبتني نفسي، ووجدها بكراً، فولدت له ولدين افرائيم ومنشا. فلمّا ولي يوسف خزائن أرضه ومضت السنون السبع المخصبات وجمع فيها الطعام في سنبله ودخلت السّنون المجدبة وقحط النّاس وأصابهم الجوع وأصاب بلاد يعقوب التي هو بها بعث بنيه إلى مصر وأمسك بنيامين أخا يوسف لأمّه، فلمّا دخلوا على يوسف عرفهم وهم له منكرون، وإنّما أنكروه لعبد عهدهم منه ولتغير لبسته، فإنّه لبس ثياب الملوك، فلما نظر إليهم قال: أخبروني ما شأنكم، قالوا: نحن من الشام جئنا نمتار الطعام، قال: كذبتم، أنتم عيون، فأخبروني خبركم، قالوا: نحن عشرة أولاد رجل واحد صدّيق، كنّا اثني عشر، وإنّه كان لنا أخ فخرج معنا إلى البرية فهلك، وكان أحبّنا إلى أبينا، قال: فإلى من سكن أبوكم بعده؟ قالوا: إلى أخ لنا أصغر منه، قال: فأتوني به أنظر إليه {فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون قالوا سنراود عنه أباه} يوسف: 12: 60- 61، قال: فاجعلوا بعضكم عندي رهينة حتى ترجعوا، فوضعوا شمعون، أصابته القرعة، وجهّزهم يوسف بجهازهم وقال لفتيانه: اجعلوا بضاعتهم، يعني ثمن الطعام، في رحالهم لعلّهم يرجعون، لما علم أنّ أمانتهم وديانتهم تحملهم على ردّ البضاعة فيرجعون إليه لأجلها. وقيل: ردّ مالهم لأنّه خشي أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به مرّةً أخرى، فإذا رأوا معهم بضاعة عادوا، وكان يوسف حين رأى ما بالنّاس من الجهد قد أسّى بينهم، وكان لا يحمل للرجل إلا بعيراً. فلما رجعوا إلى أبيهم بأحمالهم قالوا: يا أبانا إنّ عزيز مصر قد أكرمنا كرامة لو أنه بعض أولاد يعقوب مازاد على كرامته، وإنه ارتهن شمعون وقال: ائتوني بأخيكم الذي عطف عليه أبوكم بعد أخيكم، {فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون} قال: {هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير} يوسف: 12: 63- 65، قال يعقوب: {ذلك كيلٌ يسير} فقال يعقوب: {لن أرسله معكم حتى تؤتوني موثقاً من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلمّا آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل} يوسف: 12: 66، ثم أوصاهم أبوهم بعد أن أذن لأخيهم في الرحيل معهم {وقال يا بنيّ لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة} يوسف: 12: 67، خاف عليهم العين، وكانوا ذوي صورة حسنة، ففعلوا كما أمرهم أبوهم، {ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه} يوسف: 12: 69 وعرفه وأنزلهم منزلاً وأجرى عليهم الوظائف وقدّم لهم الطعام وأجلس كلّ اثنين على مائدة، فبقي بنيامين وحده، فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حيّاً لأجلسني معه فقال يوسف: لقد بقي أخوكم هذا وحيداً، فأجلسه معه وقعد يؤاكله، فلما كان الليل جاءهم بالفرش وقال: لينم كلّ أخوين منكم على فراش، وبقي بنيامين وحده، فقال: هذا ينام معي، فبات معه على فراشه، فبقي يشمّه ويضمّه إليه حتى أصبح، وذكر له بنيامين حزنه على يوسف، فقال له: أتحبّ أن أكون أخاك عوض أخيك الذاهب؟ فقال بنيامين: ومن يجد أخاً مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه فعانقه وقال له: إنّي أنا أخوك يوسف فلا تبتئس بما فعلوه بنا فيما مضى، فإنّ الله قد أحسن إلينا، ولا تعلمهم بما علّمتك. وقيل: لما دخلوا على يوسف نقر الصّواع وقال: إنه يخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلاً وأنكم بعتم أخاكم، فلمّا سمعه بنيامين سجد له وقال: سل صواعك هذا عن أخي أحيّ هو؟ فنقره ثم قال: هو حيّ وستراه، قال: فاصنع بي ما شئت فإنّه إن علم بي فسوف يستنقذني؛ قال: فدخل يوسف فبكى ثمّ توضّأ وخرج إليهم، قال: فلمّا حمّل يوسف إبل إخوته من الميرة جعل الإناء الذي يكيل به الطعام، وهو الصواع، وكان من فضّة، في رحل أخيه، وقيل: كان إناء يشرب فيه، ولم يشعر أخوه بذلك. وقيل: إنّ بنيامين لما علم أنّ يوسف أخوه قال: لا أفارقك، قال يوسف: أخاف غمّ أبوينا ولا يمكنني حبسك إلاّ بعد أن أشهرك بأمر فظيع، قال: افعل، قال: فإني أجعل الصواع في رحلك ثمّ أنادي عليك بالسرقة لآخذك منهم، قال: افعل، فلمّا ارتحلوا {أذّن مؤذّن أيتها العير إنكم لسارقون} يوسف: 12: 70، {قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين} يوسف: 12: 73 لأننا رددنا ثمن الطعام إلى يوسف، فلما قالوا ذلك {قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه} يوسف: 12: 74- 75 تأخذونه لكم، فبدأ بأوعيتهم ففتشها قبل وعاء أخيه ثمّ استخرجها من وعاد أخيه، فقالوا: {إن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبل} يوسف: 12: 75، يعنون يوسف، وكانت سرقته حين سرق صنماً لجدّه أبي أمّه فكسره فعيروه بذلك، وقيل ما تقدّم ذكره من المنطقة. فلما استخرجت السرقة من رحل الغلام قال إخوته: يا بني راحيل لا يزال لنا منكم بلاء فقال بنيامين: بل بنو راحيل ما يزال لهم منكم بلاء وضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم. فأخذ يوسف أخاه بحكم إخوته، فلمّا رأوا أنهم لا سبيل لهم عليه سألوه أن يتركه لهم و{قالوا يا أيها العزيز إنّ له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه} يوسف: 12: 78، فقال: {معاذ الله أن نأخذ إلاّ من وجدنا متاعنا عنده} يوسف: 12: 79، فلما يأسوا من خلاصه خلصوا نجيّاً لا يختلط بهم غيرهم، فقال كبيرهم، وهو شمعون: {ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله} يوسف: 12: 80 أن نأتيه بأخينا إلاّ أن يحاط بنا، ومن قبل هذه المرّة {ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي} يوسف: 80 بالخروج، وقيل: بالحرب، فارجعوا إلى أبيكم فقصّوا عليه خبركم. فلما رجعوا إلى أبيهم فأخبروه بخبر بنيامين وتخلف شمعون {قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميلٌ عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً} يوسف: 12: 83، بيوسف وأخيه وشمعون، ثم أعرض عنهم وقال: واحزناه على يوسف {وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم} يوسف: 12: 84 مملوء من الحزن والغيظ، فقال له بنوه: {تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً} أي دنفاً {أو تكون من الهالكين} يوسف: 12: 85، فأجابهم يعقوب فقال: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون} من صدق رؤيا يوسف. وقيل: بلغ من وجد يعقوب وجد سبعين مبتلىً، وأعطي على ذلك أجر مائة شهيد. قيل: دخل على يعقوب جارٌ له فقال: يا يعقوب قد انهشمت وفنيت ولم تبلغ من السنّ ما بلغ أبوك فقال: هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من همّ يوسف، فأوحى الله إليه: أتشكوني إلى خلقي؟ قال: يا ربّ خطيئة فاغفرها، قال: قد غفرتها لك، فكان يعقوب إذا سئل بعد ذلك قال: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} فأوحى الله إليه: لو كانا ميتين لأحييتهما لك، إنّما ابتليتك لأنك قد شويت وقترت على جارك ولم تطعمه. وقيل: كان سبب ابتلائه أنه كان له بقرة لها عجول فذبح عجولها بين يديها وهي تخور فلم يرحمها يعقوب، فابتلي بفقد أعزّ ولده عنده؛ وقيل: ذبح شاة، فقام ببابه مسكين فلم يطعمه منها، فأوحى الله إليه في ذلك وأعلمه أنه سبب ابتلائه، فصنع طعاماً ونادى: من كان صائماً فليفطر عند يعقوب. ثمّ إن يعقوب أمر بنيه الذين قدموا عليه من مصر بالرجوع اليها وتجسّس الأخبار عن يوسف وأخيه، فرجعوا إلى مصر فدخلوا على يوسف وقالوا: {يا أيها العزيز مسّنا وأهلنا الضرّ وجئنا ببضاعة مزجاة- يعني قليلة- فأوف لنا الكيل} يوسف: 12: 88 قيل: كانت بضاعتهم دراهم زيوفاً، وقيل: كانت سمناً وصوفاً، وقيل غير ذلك، {وتصدق علينا} بفضل ما بين الجيّد والرّديء، وقيل: بردّ أخينا علينا، فلما سمع كلامهم غلبته نفسه فارفضّ دمعه باكياً ثمّ باح لهم بالذي كان يكتم، وقيل: إنما أظهر لهم ذلك لأن أباه كتب إليه، حين قيل له إنّه أخذ ابنه لأنه سرق، كتاباً: من يعقوب اسرائيل الله ابن اسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر المظهر العدل: أما بعد فإنّا أهل بيت موكل بنا البلاء، أما جدّي فشدّت يداه ورجلاه وألقي في النار فجعلها الله عليه برداً وسلاماً، وأما أبي فشدّت يداه ورجلاه ووضع السكين على حلقه ليذبح ففداه الله، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحبّ أولادي إليّ فذهب به إخوته إلى البرية فعادوا ومعهم قميصه ملطخاً بدم وقالوا: أكله الذئب، وكان لي ابن آخر أخوه لأمّه فكنتُ أتسلّى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا: إنه سرق وإنك حبسته، وإنّا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً فإن رددته عليّ وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك. فلمّا قرأ الكتاب لم يتمالك أن بكى وأظهر لهم فقال: {هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون قالوا أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد منّ الله علينا} يوسف: 12: 89- 90 بأن جمع بيننا، فاعتذروا و{قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين} قال: {لا تثريب عليكم الوم} يوسف: 91: 92، أي لا أذكر لكم ذنبكم، {يغفر الله لكم} ثم سألهم عن أبيه، فقالوا: لما فاته بنيامين عمي من الحزن، فقال: {اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً وأتوني بأهلكم أجمعين} [يوسف: 12: 93] فقال يهودا: أنا أذهب به لأنّيذهبت إليه بالقميص ملطّخاً بالدم وزخبرته أن يوسف أكله الذئب، فأنا أخبره أنه حيّ فأفرحه كما أحزنته، وكان هو البشير، {ولما فصلت} العير عن مصر حملت الريح إلى يعقوب ريح يوسف، وبينهما ثمانون فرسخاً، يوسف بمصر ويعقوب بأرض كنعان، فقال يعقوب: {إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون} يوسف: 12: 94؟ فقال له من حضره من أولاده: {تالله إنك} من ذكر يوسف {لفي ضلالك القديم فلمّا أن جاء البشير} بقميص يوسف {ألقاه} على وجه يعقوب فعاد بصيراً و{قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون} يعني تصديق الله تأويل رؤيا يوسف؛ و{لما أن جاء البشير} يوسف: 12: 95- 96 قال له يعقوب: كيف تركت يوسف؟ قال: إنه ملك مصر، قال: ما أصنع بالملك علي أيّ دين تركته؟ قال: على الإسلام، قال: الآن تمّت النعمة، فلما رأى من عنده من أولاده قميص يوسف وخبره قالوا له: {يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا قال سوف أستغفر لكم} يوسف: 12: 96- 97 آخر الدّعاء إلى السّحر من ليلة الجمعة. ثم ارتحل يعقوب وولده، فلمّا دنا من مصر خرج يوسف يتلقّاه ومعه أهل مصر، وكانوا يعظمونه، فلما دنا أحدهما من صاحبه نظر يعقوب إلى الناس والخيل، وكان يعقوب يمشي ويتوكّأ على ابنه يهودا، فقال له: يا بنيّ هذا فرعون مصر، قال: لا، هذا ابنك يوسف، فلما قرب منه أراد يوسف أن يبدأه بالسلام، فمنع من ذلك، فقال يعقوب: السلام عليك يا مُذهب الأحزان، لأنّه لم يفارقه الحزن والبكاء مدّة غيبة يوسف عنه. قال: فلما دخلوا مصر رفع أبويه، يعني أمّه وأباه، وقيل: كانت خالته، وكانت أمه قد ماتت، وخّر له يعقوب وأمّه وإخوته سجداً، وكان السجود تحيّة الناس للملوك، ولم يرد بالسجود وضع الجبهة على الأرض، فإنّ ذلك لا يجوز إلا لله تعالى، وإنما أراد الخضوع والتواضع والانحناء عند السلام، كما يفعل الآن بالملوك، والعرش: السرير، وقال: {يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً} يوسف: 12: 100. وكان بين رؤيا يوسف ومجيء يعقوب أربعون سنة، وقيل: ثمانون سنة، فإنه ألقي في الجبّ وهو ابن سبع عشرة سنة، ولقيه وهو ابن سبع وتسعين سنة، وعاش بعد جمع شمله ثلاثاً وعشرين سنة، وتوفي وله مائة وعشرون سنة، وأوصى إلي أخيه يهودا، وقيل: كانت غيبة يوسف عن يعقوب ثماني عشرة سنة، وقيل: إنّ يوسف دخل مصر وله سبع عشرة سنة، واستوزره فرعون بعد ثلاث عشرة سنة من قدومه إلى مصر، وكانت مدّة غيبته عن يعقوب اثنتين وعشرين سنة، وكان مُقام يعقوب بمصر وأهله معه سبع عشرة سنة، وقيل غير ذلك، والله أعلم. ولما مات يعقوب أوصي إلى يوسف أن يدفنه مع أبيه اسحاق، ففعل يوسف، فسار به إلى الشام فدفنه عند أبيه، ثمّ عاد إلى مصر وأوصى يوسف أن يحمل من مصر ويدفن عند آبائه، فحمله موسى لما خرج ببني إسرائيل. وولد يوسف افرائيم ومنشى، فولد لافراثيم نون ولنون يوشع فتى موسى، وولد لمنشى موسى، قيل موسى بن عمران، وزعم أهل التوراة أنه موسى الخضر، وولد له رحمة امرأة أيّوب في قولك.
|